قلب مغترب.....

قلب مغترب


على طريق المطار، تجاوز عني ''باص هوندا'' يحمل حقائب سفر كثيرة وينبعث منه صوت ''مجوز'' درازي حماسي، عرفت انه كان في استقبال مغترب مبتدئ، لذا قادني الفضول لأنظر مليّاً إلى ركّابه علّي أستنشاق الفرحة من عيونهم فأصاب بالعدوى، شاهدت في الكرسي الخلفي ''حجّة'' بشوشة، حمراء الوجه، تطوق ابنها المغترب بذراعها، تقبّله تارة و''تعسّ'' ساعده وظهره و''كرشه'' تارة أخرى لتتأكّد من تمام صحّته..بينما الشقيق الأكبر يجلس في الكرسي الأمامي ويشرب الماء المثلّج من ''قنينة'' سفن أب قديمة..وبحضنه طفل ''اقرع'' لا بد أنه ''تنح'' طويلاً ليفوز بمرافقة ابيه وجدّته ويشاهد دمشق المجد من خلال باص ''سلطي الحريري ''..

تجاوزني الباص ومضى، فأطلقتُ خيالي ليعدو معهم، قلت لا بدّ أنه مغترب جديد، فالمغترب الجديد يحظى باحتفاء مختلف، ففي أول سنة اغتراب تكون الدار من غيره ناقصة..والسهرات مطفأة والضحكات باردة، كل شيء في البيت ينقصه، كما ينقص هو كل شيء ..لذا يكون لقاء العودة الأول، لقاء حميما وعفوياً مثل لقاء الأرض مع المطر..

أول ما يدخل المغترب عتبة الدار، ويركض إليه ''الأولاد'' المستحمّين والمهندمين استثنائياً، يشتم رائحة الجميد..فالغداء الرسمي للمغتربين هو ''منسف مليحي ع جاج''..وقبل أن يكمل سلامه على باقي العائلة الذين يأتون من أشغالهم بالتتابع، يسمع صوت ''طقّة مفتاح الغاز''..كإشارة على تركيب ابريق الشاي الموعود.

ولأن المغترب الجديد، يحنّ إلى كل التفاصيل، فهو يقرأ بعينيه كل ''سنتيمتر'' في الدار كما يقرأ عاشق وجه حبيبته، فيبارك تركيب ''المروحة السقفية'' ويتساءل عن موبايل ''عقله'' القديم، وعن مصير ''تيرموس'' الماء الأحمر، وعن ''شبك الحماية'' ويندهش لمشاهدة طقم ''كاسات'' جديد عندما ينسكب فيه الشاي..ويسألونه عن ''الحمّ'' هناك ومقارنته ''بالحمّ البلدي'' هنا، فيؤكّد أن ''هنا'' جنّة..وأن المشكلة بالرطوبة لا بالحرارة نفسها، ثم ينتقلون للحديث عن المطاعم، وعن الغلاء الذي في بلدنا ويساق ''قطرميز'' الطحينة كمثال حي.

في الليل يحضر أقارب من درجات مختلفة، يصرّون على معرفة راتب المغترب بالضبط : ليقسّموا، ويطرحوا، ويجمعوا، ويقدّروا، وبالتالي ليخمّنوا حجم توفيره، ثم يضربوه ''بحجرٍ كبير''...

مع انه في عُرف المغتربين جميعاً من المحيط الى الخليج، ومن الصحراء الى الصحراء، ان السنوات الثلاث الأولى، الغربة فيها مجرّد ''نزف زمني'' لا أكثر.

لقد تجاوز عني ذلك ''الباص'' ذاهباً الى قريته البعيدة، لكنني لم أتجاوزه بذاكرتي وخيالي..

أموال الدنيا لا تساوي لهفة أمٍّ عاد إليها ''قلبها'' المغترب...